كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يروى أنّ آدم عليه السلام كان يولد له في كل سنة بطن غلام وجارية، فكان يزوّج البنت من بطن بالغلام من بطن آخر فولد قابيل وتوأمته إقليما وبعدهما هابيل وتوأمته لبودا. وكانت توأمه قابيل أحسن وأجمل فأراد آدم أن يزوّجها من هابيل فأبى قابيل وقال: أنا أحق بها وليس هذا من الله وإنما هو رأيك. فقال آدم لهما: قرّبا قربانًا فمن أيكما قبل قربانه زوّجتها منه. فقبل الله قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل سخطًا وقتل أخاه حسدًا. هذا ما عليه أكثر المفسرين وأصحاب الأخبار وقال الحسن والضحاك: إنهما ما كانا ابني آدم لصلبه وإنما كانا رجلين من بني إسرائيل لقوله عزّ من قائل: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل} ومن البين أنّ صدور الذنب من أحد ابني آدم لا يصلح أن يكون سببًا لإيجاب القصاص على بني إسرائيل، وزيف بأنّ الآية تدل على أنّ القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب ولو كان من بني إسرائيل لم يخف عليه. قال مجاهد: أكل النار علامة الرد. وجمهور المفسرين على أنّ ذلك علامة القبول. وقيل: ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرّب إلى الله فكانت النار تنزل من السماء فتأكله. وإنما صار أحد القربانين مقبولًا والآخر مردودًا لأنّ حصول التقوى شرط في قبول الأعمال ولهذا قال تعالى حكاية عن المحق في جواب المبطل: {إنما يتقبل الله من المتقين} وذلك لأنه لما كان الحسد هو الذي حمله على توعده بالقتل فكأنه قال له: ما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على طاعة الله تعالى التي هي السبب في القبول؟ قيل في هذه القصة: إنّ أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه وكان صاحب غنم، والآخر جعله أرادأ ما كان معه وكان صاحب زرع. وقيل: إنه أضمر حين قرب أنه لا يزوّج أخته من هابيل سواء قبل أو لم يقبل. وقيل: لم يكن قابيل من أهل التقوى وفي الكلام حذف فكأن هابيل قال في جواب المتوعد: لم تقتلني؟ قال:
لأنّ قربانك صار مقبولًا. فقال هابيل: وما ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين. ثم حكى الله سبحانه عن المظلوم أنه قال: {لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك} فذكر الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل مقرونًا بالباء المزيدة لتأكيد النفي دلالة على أنه لا يفعل ام يكتسب به هذا الوصف الشنيع ألبتة. قال مجاهد: كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرّج عن قتل أخيه واستسلم له خوفًا من الله لانّ الدفع لم يكن مباحًا في ذلك الوقت وهذا وجه قوله: {إني أخاف الله رب العالمين} وقيل: المعنى لا أبسط يدي إليك لغرض قتلك وإنما أبسط يدي إليك لغرض الدفع.
قال أهل العلم: الدافع عن نفسه يجب عليه أني دفع بالأيسر فالأيسر وليس له أن يقصد القتل بل يجب عليه أن يقصد الدفع، ثم إن لم يندفع إلاّ بالقتل جاز له ذلك. ثم قال: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} فسئل أنه كيف يعقل أن يرجع القاتل مع إثم المقتول {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164]؟ فقال ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة: أي تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي. وقال الزجاج: ترجع إلى الله بإثم قتلي وأثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك. وقال في الكشاف: إنه يحتمل مثل الإثم المقدر كأنه قال إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي. سؤال آخر: كيف جاز أن يريد معصية أخيه وكونه من أهل النار؟ والجواب أن هذا الكلام إنما دار بينهما عندما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل فكأنه لما وعظه ونصحه قال له: إن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلابد أن تترصد لقتلي في وقت غفلة وحينئذٍ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلاّ إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان وهذا مني كبيرة ومعصية، وإذا دار الأمر بين أن أكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن تكون أنت فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي، ومن البين أن إرادة صدور الذنب عن الغير في هذه الحالة لا يكون حرامًا بل هو عين الطاعة. أو المراد أريد أن تبوء بعقوبة قتلي، ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يرد من الله تعالى عقاب الظالم. وروي أنّ الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم، فعلى هذا يجوز أن يقال: إني أريد أن تبوء بإثمي الذي يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني، وبإثمك في قتلك إياي وهذا يصلح جوابًا عن السؤال الأوّل أيضًا. {فطوّعت له نفسه قتل أخيه} وسعته ورخصته وسهلت من طاع له المرتع وأطاع إذا اتسع وله لأجل زيادة الربط كقول القائل: حفظت لزيد ماله. ومنهم من قال: شجعته فقتله. والتحقيق أن الإنسان يعلم أن القتل العمد العدوان من أعظم الذنوب فهذا الاعتقاد يكون صارفًا له عن فعله فلا يطاوع النفس الأمارة حتى إذا كثرت وساوسها انقاد لها وخضع. وإضافة التطويع والتمرين إلى النفس لا ينافي كون الكل مضافًا إلى قضاء الله فتنبه. يحكى أنّ قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فظهر له إبليس وأخذ طيرًا وضرب رأسه بحجر فتعلّم قابيل ذلك منه.
ثم إنه وجد هابيل يومًا نائمًا فضرب رأسه بصخرة فمات. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقتل نفس ظلمًا إلاّ كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها» ولذلك أنه أوّل من سن القتل {فأصبح من الخاسرين} دنياه وآخرته لأنه أسخط والديه وبقي مذمومًا إلى يوم القيامة ثم يلقى في النار خالدًا. قيل: لما قتل أخاه هرب من أرض اليمن إلى عدن فأتاه إبليس وقال له: إنما أكلت النار قربان هابيل أنه كان يخدم النار ويعبدها. فبنى بيت نار وهو أوّل من عبد النار. وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء. وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم. وروي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلًا. فقال: بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك. ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك وإنه رثاه بشعر هو هذا:
تغيرت البلاد ومن عليها ** فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي طعم ولون ** وقل بشاشة الوجه المليح

قال في الكشاف: إنه كذب بحت وقد صح أن الأنيباء معصومون عن الشعر وصدّقه في التفسير الكبير وقال: إنّ ذلك من غاية الركاكة بحيث لا يليق بالآحاد فضلًا من الأفراد وخصوصًا من علمه حجة على الملائكة. وأقول: أما أن جميع الأنبياء معصومون عن الشعر فلعل دعوى العموم لا تمكن فيه وكأنه من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا أثنى الله تعالى عليه بقوله: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} [يس: 69] وأما أنه من الركاكة بالحيثية المذكورة فمكابرة مع أن مقام البث والشكوى لا يحتمل الشعر المصنوع والله أعلم بحقيقة الحال. قال المفسرون: إنه لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغيّر فبعث الله غرابًا. روى الأكثرون أنه بعث غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فتعلم من الغراب. وقال: الأصم: لما قتله وتركه بعث الله غرابًا يحثى على المقتول فلما رأى القاتل أنّ الله تعالى كيف يكرمه بعد موته ندم. وقال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئًا فتعلم ذلك منه {ليريه} أي الله أو الغراب أي ليعلمه وذلك أنه كان سبب تعليمه {كيف يواري} محله نصب على الحال من ضمير {يواري} والجملة منصوبة بيرى مفعولًا ثانيًا أي ليريه كيفية مواراة سوأة أخيه أي عورته وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده. وقيل: أي جيفة أخيه. والسوأة السوء الخلة القبيحة {يا ويلتي} كلمة عذاب. يقال: ويل له وويله ومعناه الدعاء بالإهلاك وقد يقال في معرض الترحم.
وإنما طلب إقبال الويل هاهنا على سبيل التعجب والندبة أي احضر حتى يتعجب منك ومن فظاعتك أو احضر فهذا أوان حضورك. والألف بدل من ياء المتكلم {أعجزت} استفهام بطريق الإنكار {أن أكون} أي عن أن أكون {مثل هذا الغراب} أي فيء الفعلة المذكورة ولهذا قال: {فأواري} بالنصب على جواب الاستفهام {من النادمين} الندم وضع للزوم ومنه النديم لملازمته المجلس. وإنما لم يكن ندمه توبة لأنه لما تعلم الدفن من الغراب صار من النادمين على أنّ حمله على ظهره سنة، أو ندم على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله بل سخط عليه أبواه وإخوته، أو ندم لأنه تركه بالعراء استخفافًا وتهاونًا وكان دون الغراب في الشفقة على مقتولة حتى صار الغراب دليلًا وقد قيل:
إذا كان الغراب دليل قوم

{من أجل ذلك} القتل قيل: هو من أجل شرًا يأجله أجلًا إذا جناه {كتبنا على بني إسرائيل} إن كان القاتل والمقتول من بني إسرائيل فالمناسبة بين الواقعة وبين وجوب القصاص عليهم ظاهرة، وإن كانا ابني آدم من صلبه فالوجه أن يكون ذلك إشارة إلى ما في القصة من أنواع المفاسد كخسران الدارين وكالندم على الأمور المذكورة، أي من أجل ما ذكرنا في أثناء القصة من المفاسد الناشئة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص في حق القاتل، ثم وجوب القصاص وإن كان عامًا في جميع الأديان والملل إلاّ أنّ التشديد المذكور في الآية- وهو أن قتل النفس الواحدة جار مجرى قتل جميع الناس- غير ثابت إلاّ على بني إسرائيل. والغرض بيان قساوة قلوبهم فإنهم مع علمهم بهذا الحكم أقدموا على قتل الأنبياء والرسل فيكون فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الواقعة التي عزموا فيها على قتله. ثم القائلون بالقياس استدلوا بالآية على أنّ أحكام الله تعالى قد تكون معللة بالعلل لأنه صرّح بأن الكتبة معللة بتلك المعاني المشار إليها بقوله: {من أجل ذلك} والمعتزلة أيضًا قالوا: إنها دلّت على أنّ الأحكام معللة بمصالح العباد. ويعمل منه امتناع كونه تعالى خالقًا للكفر والقبائح لأنّ ذلك ينافي مصلحة العبد. والأشاعرة شنعوا عليهم بلزوم الاستكمال. والتحقيق أنّ استتباع الفعل الغاية الصحيحة لا ينافي الكمال الذاتي وقد سبق مرارًا. {بغير نفس} أي بغير قتل نفس وهو أن يقع لا على وجه الاقتصاص. {أو فساد} قال الزجاج: إنه معطوف على {نفس} بمعنى أو بغير فساد {في الأرض} كالكفر بعد الإيمان وكقطع الطريق وغيره من المهدّدات {فكأنما قتل الناس جميعًا} وههنا نكتة وهي أنّ التشبيه لا يستدعي التسوية بين المشبة والمشبه به من كل الوجوه، فلا يكون قتل النفس الواحدة قتل جميع الناس فإنّ الجزء لا يعقل أنه مساوٍ للكل. فالغرض استعظام أمر القتل العمد العدوان واشتراك القتلين في استحقاق الإثم كما قال مجاهد: قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب الله والعذاب العظيم ولو قتل الناس جميعًا لم يزد على ذلك.
والتحقيق فيه أنه إذا أقدم على القتل العمد العدوان فقد رجح داعية الشهوة والغضب على داعية الطاعة، وإذا ثبت الترجيح بالنسبة إلى واحد ثبت بالنسبة إلى كل واحد بل بالإضافة إلى الكل لأنّ كل إنسان يدلي من الكرامة والحرمة بما يدلي به الآخر. وفيه أن جد الناس واجتهادهم في دفع قاتل شخص واحد يجب أن يكون مثل جدّهم في دفعة لو علموا أنه يقصد قتلهم بأسرهم {ومن أحياها} استنقذها من مهلكة كحرق أو غرق أو جوع مفرط ونحو ذلك، والكلام في تشبيه إحياء البعض بإحياء الكل كما تقرر في القتل {ثم إنّ كثيرًا منهم} أي من بني إسرائيل {بعد ذلك} بعد مجيء الرسل {لمسرفون} في القتل لا يبالون بهتك حرمة. ومعنى «ثم» تراخي الرتبة.
ثم إنه سبحانه بين أن الفساد في الأرض الموجب للقتل ما هو فقال: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} استدل بالآية من جوز إرادة الحقيقة والمجاز معًا من لفظ واحد لأنّ محاربة الله عبارة عن المخالفة فقط لا يمكن حملها على حقيقة المحاربة. ويحتمل أن يقال: إنا نحمل هذه المحاربة على مخالفة الأمر والتكليف. والتقدير إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله، أو المراد إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله كما جاء في الخبر «من أهان لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة» {ويسعون في الأرض فسادًا} نصب على الحال أي مفسدين، أو على العلة أي للفساد، أو على المصدر الخاص نحو: رجع القهقرى. لأنّ افساد نوع من السعي. عن قتادة عن أنس أن الآية نزلت في العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم ثم سمل أعينهم وتركهم حتى ماتوا فكانت الآية ناسخة لتلك السنة. وعند الشافعي لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقاَ للسنة الناسخة. وقيل: نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي- وكان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد- فمرّ بهم قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب فقتلوهم وأخذوا أموالهم. وقيل: إنها في بني إسرائيل الذين حكى الله عنهم أنهم مسرفون في القتل. وقيل: في قطّاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء. قالوا: ولا يجوز حمل الآية على المرتدين لأنّ قتل المرتد لا يتوقف على المحاربة وإظهار الفساد في الأرض، ولأنه لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد أو النفي، ولأن حدّه يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه وبعدها، ولأنّ الصلب غير مشروع في حقه، ولأن اللفظ عام.